رواية ياسين .. الفصل الاول (( عودة بعد الغياب ))


كان ياسين ينظر من نافذة الطائرة العائدة إلى الوطن وخياله يسرح في السنين التي قضاها في الغربة يدرس علوم الكيمياء ، حين تنبه فجأة على صوت المضيفة تعلن دخول الطائرة إلى أجواء الوطن ، خفق قلب ياسين بشدة فقد هزه الحنين الى الوطن منذ سنوات ، وكم كان مشتاقاً لهذه اللحظة التي يعود بها إلى قريته وأهله ، لكنه كان يحس بشيء من الخوف والقلق لدرجة أنه تمنى في لحظة من اللحظات أن تعود به الطائرة إلى بلاد الغربة.

لم يعرف ياسين سبب القلق والخوف الذي كان يشعر به ، لكنه أحس بأنه مقدم على سواد عظيم غطى الافق في عينيه برغم السماء والغيوم الظاهرة من نافذة الطائرة التي اعلنت مضيفتها أنها تستعد للهبوط ، وكلما إقتربت الطائرة من أرض المطار كان قلب ياسين يزداد قلقاً وخوفاً لم يستطع تفسيره.

هبطت الطائرة أرض المطار ونزل الركاب بشوق ولهفة ، وبقي ياسين في مقعده مع خوفه وقلقه ، لكنه في النهاية نهض ونزل سلم الطائرة بتردد وقلبه يحس بأن شيئاً عظيماً بإنتظاره.

تمت إجراءات التفتيش على أحسن ما يكون ، وخرج ياسين ليركب سيارة أجرة تقله إلى قريته ، وبعد لحظات كان يستمتع بنسمات الهواء العليل تداعب وجهه من نافذة السيارة التي كانت تشق طريقها إلى القرية ، وبدأ ياسين يشعر بالإرتياح وبدأ القلق والخوف يتبدد شيئاً فشيئاً.

كان ياسين ينظر هنا وهناك متعجباً من التغيير الكبير الذي حصل في المدينة في هذه السنوات التي قضاها في الغربة ، وكان يبدي إندهاشه للسائق الذي أخذ يحكي لياسين عن التطورات الكبيرة التي حصلت في هذه السنين ، بينما السيارة بدأت تخرج من عمران المدينة لتأخذ طريق الريف الجميل الذي كم كان ياسين متشوقاً لرؤيته.

بدأ السائق بتخفيف السرعة لأن الطريق بدأت بالتعرج مما يصعب من السير عليها بسرعة عالية ، وبدأت ملامح القرية تظهر تدريجيا وقلب ياسين يخفق اكثر واكثر ، حتى وصلت السيارة الى المدرسة الكبيرة في طرف القرية ، وما إن رأها ياسين حتى بدأ يسترجع ذكريات الطفولة وأيام الدراسة ، واخذت الابتسامة تعلو شفتيه حين تذكر اصدقاءه ومشاكساتهم في المدرسة.

اخذ ياسين يصف للسائق اتجاه منزلهم في الطرقات الضيقة للقرية ، حتى طلب منه التوقف أمام أحد المنازل القديمة المبنية من الحجارة والطين ، يحيط بها سور متهالك تعلوه بعض الحشائش    الخضراء ، وفي طرفه بوابةٌ خشبية قديمة تدخل إلى فناء البيت ، ذلك البيت الذي شهد طفولة ياسين وصباه ، وهو الآن يعود إليه بعد عقد ونصف من السنين.

أنزل ياسين حقائبه من صندوق السيارة ، ودعا السائق لإستضافته في منزل أهله لكنه رفض وإستقل سيارته عائداً إلى المدينة ، فيما ياسين اخذ يطرق على البوابة الخشبية وينادي على أهله ، حتى خرج والده من الباب الداخلي وما إن شاهد ياسين أمام البوابه حتى فاضت عيناه بالدموع وأسرع مهرولاً الى ولده يحتضنه ويقبله ، ويلومه على كل هذه السنين التي غاب فيها بعيداً عنهم ، وما هي إلا ثوانٍ قليلة حتى خرجت والدته غير مصدقة أن الذي أمامها هو فلذة كبدها ياسين ، أخذته في أحضانها تضمه بشدة تتلمس وجهه ويديه وتسأله عن حاله وصحته ، وتصحبه إلى داخل المنزل حيث قابله بقية العائلة بشوق ولهفة ، شقيقه الأكبر يوسف وزوجته ثريا وابناءه سليم وسلمى الذين لم يحضر ولادتهم ،  وشقيقه الأصغر حسان وشقيقتيه التوأم مريم وفاطمه.

فرحت العائلة بعودة ياسين بعد كل هذا الغياب ، وبدأوا يسألون ويسألون ويسألون عن كل شيء حتى صاح بهم والدهم طالباً منهم ترك ياسين ليستريح من عناء السفر ، لكن ياسين طلب من والده أن يتركهم فهو مشتاق لهم جداً ، وبدأ يتحدث لأهله عن سفره ودراسته وشهاداته العلمية التي حصل عليها وأبحاثه التي قام بها والدرجة التي وصل إليها ، وكم كان ياسين فرحاً وهو يرى الفخر والاعتزاز في عيون والديه.

مرت السهرة جميلة تسودها الفرحة العارمة بهذه المناسبة ، تخللها عشاء ريفي لذيذ كم كانت نفس ياسين تتوق له ، وإتجه الكل إلى فراشه للنوم ، ودخل ياسين لأخذ حمام ساخن أحس بعده بالإسترخاء التام فدخل غرفة النوم وما هي إلا دقائق حتى كان مستغرقاً في سبات عميق.

إستيقظ ياسين على أشعة الشمس من نافذة الغرفة وصوت شقيقته مريم تدعوه للاستيقاظ لتناول طعام الإفطار مع العائلة ، فهنا في الريف لا يوجد قهوة للصباح ولا أصوات للسيارت ولا دخان للمصانع يستيقظ عليه المرء كل صباح ، بل هنا اجواء نقية صافية وهواء منعش واصوات العصافير تزقزق فوق الأشجار ، وطعام صحي وكل ما يدعو إلى صفاء الذهن ونشاط العقل والجسم ، مما جعل ياسين يشعر لأول مرة منذ زمن طويل بالراحة والسكينة والنشاط.

تناول ياسين طعام الإفطار مع العائلة في جو من المرح والإلفة ، وجلس بعدها مع والده في فناء المنزل يتحدثون عن الخطوات القادمة وعن مستقبل ياسين وماذا عليه أن يفعل ، وكم كانت فرحة والده عندما علم بأن ياسين يريد أن يقدم على وظيفة في وطنه ويستقر ليخدم بلده وأهله ، وطلب من والده أن يرافقه إلى مركز المدينة صبيحة اليوم التالي ليبدأ إجراءات تقديم أوراقه للتعيين ، ثم أخذ يتجول برفقة شقيقه حسان في طرقات القرية مستمتعاً بهذا الجو الرائع ، وكم كانت دهشته عندما وجد أمور كثيرة ما زالت على حالها طول هذه السنين.

أخذ ياسين يسلم على كل من يراه في جولته ، ابو أحمد صاحب الدكان ، وخالد حلاق القرية ، وعبد المعز الفران صاحب المخبز ، وابو سعيد مختار القرية وأبنته سميرة التي تركها طفلة صغيرة تلعب في شوارع القرية ، هي الآن شابة جميلة ينقصها العريس فقط ، ويبدو أنه كان حاضراً أيضاً فقد شاهد ياسين إختلاس النظرات بين شقيقه حسان وسميرة إبنة المختار في غفلة من المختار ابو سعيد الذي كان يتحدث مع ياسين الذي لم يستطع منع ابتسامته في هذا الموقف.

إستمرت الجولة الجميلة في القرية وإزداد ضحك ياسين عندما رأى الخجل الواضح على وجه حسان بعد أن سأله عن سر هذه النظرات الودية مع سميرة ، لكنه بدد هذا الخجل عندما أخذ يحدث شقيقه بأنه كبر وأصبح رجلا ولا مانع من زواجه إن كان يرغب في ذلك ، ففرح حسان كثيراً بتشجيع شقيقه له لكنه سرعان ما تجهم وقال بأن والده يرفض فكرة زواجه الآن ، فوعده ياسين بأن يحاول إقناع والده بالأمر بعد فترة قصيرة.

مضى اليوم جميلاً إستقبل فيه منزل كامل ياسين الوالد ، الكثير من المهنئين بعودة ياسين من الغربة ، ثم تناولوا الجميع طعام العشاء الذي أولمه الوالد لأهل القرية بهذه المناسبة بدأ المنزل بعده يخلو شيئاً فشيئاً حتى بقيت العائلة التي طلب منهم والدهم النوم لأن سيستيقظون باكراً ليذهب مع ياسين الى مركز المدينة.

نام الجميع وساد المنزل سكون رهيب ، لكن ياسين أخذ يتقلب في فراشه محاولاً النوم دون جدوى ، فوقف عند النافذة لعل نسمة الهواء الباردة تساعده على النوم ، في أثناء ذلك سمع ياسين صوتاً في فناء المنزل ولاحظ حركة قريبة منه ، وعندما دقق النظر وجد فأراً صغيراً يشم الأرض هنا وهناك كأنه يبحث عن طعام يأكله ، تابعه ياسين بتمعن ودقة حتى شاهده يقترب من مخزن الغذاء في طرف المنزل ، وكان يتمنى لو إستطاع أن يمنعه من دخول المخزن حتى لا يفسد غذاء العائلة ، لكن من شبه المستحيل فعل ذلك ، ولم يدري ياسين بنفسه إلا وهو يقول يا أيها الفأر توقف ولا تذهب إلى المخزن !!!  لكن الفأر بالطبع أكمل طريقه وغاب في الظلام.

 تسمّر ياسين في مكانه مندهشاً من فعلته ، ثم عاد إلى سريره وهو يفكر كيف يمكن أن أكلم فأراً وأطلب منه طلباً كأنه بشر سيستجيب لكلامي ؟؟!! ما الذي دفعني إلى ذلك ؟ كيف راودتني فكرة أن الفأر سيستجيب لأمري ؟؟ لكنه برغم كل هذه التساؤلات لم يخفي أمنيته بأن يستجيب الفأر لأمره ، لا بل أخذ يتخيل منظر الفأر وقد وقف في مكانه عندما أمره بذلك وإستدار عائداً ولم يذهب للمخزن ، ونام ياسين وتلك الصورة هي أخر ما كان يفكر فيه.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رواية ياسين الفصل السابع (( ليس بالأمر السهل ))

رواية ياسين الفصل الثاني (( البحث عن وظيفة ))

رواية ياسين الفصل الخامس (( خطوةٌ إلى الأمام ))