رواية ياسين الفصل الثالث (( في العاصمة ))


جلس ياسين يشرب الشاي مع والديه أمام المنزل وعيونه ترقب كل حيوان هنا وهناك ، وعقله يفكر هل من الممكن التحكم بسلوك هذه الحيوانات ؟؟ هل من الممكن جعلها تتصرف كما يريد صاحبها ؟؟ وإن كان هذا ممكناً فما هي الطريقة ؟؟ هل نظرية معلمه الألماني يمكن تطبيقها ؟؟ وهل من الممكن الحصول على ما يلزم لإجراء التجارب هنا ؟؟ كل هذه التساؤلات أرهقت ياسين وجعلته خارج العالم من حوله ، حتى أن والديه بدأوا يلاحظونه سارحاً بإستمرار ، قليل الكلام ، دائم العزلة والتفكير ، وكلما حاولوا سؤاله عن ذلك لم يعرف ياسين كيف يشرح لهم ما يفكر به.

مرت الأيام تلو الأيام وبدأ الملل يتغلغل إلى نفس ياسين وبدأت فكرة العودة إلى أوروبا تراوده كثيراً ، حتى جاء اليوم الذي تبدل فيه الحال ، حين جاء أحمد ابن صاحب الدكان إلى منزلهم يلهث ويصرخ من خلف البوابة بأن هناك هاتف لياسين ، تبعه ياسين على عجل إلى دكان أبيه حيث الهاتف الوحيد في القرية ، وجاء الصوت من الطرف الآخر أنت ياسين كامل ياسين ؟؟ نعم انا ، يجب أن تراجع مركز الأبحاث الزراعية في العاصمة لإكمال إجراءات التعيين.

هنا أحس ياسين بنافذة في الأفق فُتحت أمامه ، وشعر بالحيوية تدب في جسده ، وبدأ النشاط يتدفق إلى عقله بعد كل هذا الملل من الروتين اليومي القاتل الذي كان يعيشه خلال الأيام الماضية ، عاد مسرعاً إلى المنزل ليزف هذا الخبر العظيم إلى والديه ، وكم كانت فرحتهم بهذا الخبر فقد كانوا يشعرون بأن ياسين قد ملَّ في الفترة الماضية ، وكانوا يخشون من عودته إلى بلاد الغربة ، لكنه الآن سيبقى في وطنه وبين أهله ، صحيح أنه سيذهب إلى العاصمة لكنه قريب منهم مقارنة بأوروبا البعيدة ، فهنا يستطيعون زيارته بين فترة وأخرى ، وهو كذلك يستطيع زيارة القرية أثناء الإجازات.

في المساء بدأت الوالدة بتجهيز حقيبة ياسين ، ووضعت فيها كل ما يلزمه ، فيما ياسين جمع كتبه وملفاته وأبحاثه في حقيبة أخرى ، وجلس مع العائلة يودعهم ويطلب من والديه الدعاء له بالتوفيق في عمله الجديد ، فإنهالت دعوات الوالدين الصادقة من القلب بأن يوفقه الله ويسدد على طريق الخير خطاه ويحفظه من كل شر ، ثم أخذه والده وخرجا إلى فناء المنزل فمسكه والده من كتفيه وقال له يا ولدي أوصيك بالأخلاق يا ياسين ، وليكن ضميرك هو الحكم في كل أمر ، وإتقي الله في عباده وكن مخلصاً في عملك ، صادقاً مع الله ومع نفسك ومع الناس ، ولا تبع مبادئك بكنوز الدنيا يا ولدي ، وإحتضنه بشده وياسين يطمئن والده بأنه سيكون كما عهده دائما ، ولده الذي يعرفه جيداً.

إستيقظ ياسين على صياح الديك عند الفجر ، فقام من سريره واغتسل ثم صلى الفجر وارتدى ملابسه وجلس مع والديه يتناول طعام الإفطار ، وما هي إلا دقائق حتى سمعوا صوت الشاحنه الزراعية التي إتفقوا مع سائقها بالأمس لنقل ياسين إلى الطريق العام ، حمل ياسين الحقائب إلى صندوق الشاحنه وركب بجانب السائق وأشار إلى والديه مودعاً وإنطلقت الشاحنه مع بزوغ أشعة الشمس تنقل ياسين بحقائبه وأحلامه وأفكاره إلى العاصمة حيث عمله الجديد.

وصلت الشاحنة إلى الطريق العام حيث نزل ياسين ينتظر الحافلة التي ستقله إلى مركز المدينة المجاورة ليركب من هناك حافلة العاصمة ، وقد كان حظه جيداً هذه المرة فلم ينتظر طويلاً حين رأى الحافلة تقف أمامه فصعد إليها وإنطلقت بركابها إلى المدينة المجاورة ، حيث نزل في الموقف العام وسأل أحد الباعة عن حافلة العاصمة فأرشده إلى مكانها ، وضع حقائبه في الصندوق أسفل الحافلة وجلس في كرسيه ينتظر انطلاقها.

انطلقت الحافلة بعد أن إمتلأت بالركاب ، وأخذت تشق طريقها إلى العاصمة التي تبعد ما يقارب ست ساعات عن المدينة ، كانت الطريق طويلةٌ وبدأ الركاب بالنوم فيما ياسين أخذ يفكر بما هو مقبل عليه ، كيف يا ترى سيكون عمله الجديد ، وهل سيلبي طموحه وأحلامه ، ومرة اخرى عادت تجربة معلمه القديم إلى صميم أفكاره ، يا لهذه الأفكار اللعينة التي لا تفارقني ، سوف تصيبني بالجنون يوماً ما.

مرت الساعة تلو الساعة حتى بدأت تظهر معالم العاصمة من بعيد بمبانيها الحديثة وأبراجها الشاهقة ، وبدأ الإزدحام المروري يشتد أكثر وأكثر حتى وصلت الحافلة إلى الموقف العام في وسط العاصمة ، نزل ياسين وحمل حقائبه باحثاً عن سيارة أجرة تقله إلى مركز الأبحاث الزراعية ، الذي لم يكن بعيداً عن موقف الحافلات ، فما هي إلا عشرين دقيقة إلا وكان أمام مبنى المركز ، فدخل الى الإستعلامات الذين أرسلوه إلى قسم التوظيف ، وهناك قابل المهندس نبيل رئيس القسم الذي رحّب به
وأخبره بأنه تم تعيينه في قسم مكافحة الآفات الزراعية ، وطلب منه الذهاب اليوم الى سكن الموظفين والالتحاق بعمله إعتباراً من صباح الغد ، وطلب من أحد العمال مرافقة ياسين إلى السكن وإيصاله إلى الغرفة رقم 111 الذي سيشغلها برفقة زميله المهندس ياسر الذي سيقابلهم هناك ، فشكره ياسين ومضى برفقة العامل إلى سكنه الجديد.

كان بناء السكن نظيفاً مرتباً يتكون من طابقين بمساحة طولية كبيرة ، وكانت غرفة ياسين في الطابق العلوي ، دق العامل باب الغرفة 111 ففتح الباب شاب أسمر البشرة طويل القامه تعلو شفتيه إبتسامة أدخلت الإرتياح إلى نفس ياسين ، وسلم عليهم ودعاهم للدخول معرفاً بنفسه المهندس ياسر قاسم عضو قسم مكافحة الآفات الزراعية ، فقام ياسين بالمثل وعرّف بنفسه كزميل جديد له في القسم ، ثم ساعده المهندس ياسر بترتيب محتويات الحقائب في خزانة الملابس وأطلعه على محتويات الغرفة التي كانت تتكون من سريرين وخزانتين ومكتبين وكنبه أمامها شاشة تلفاز وعلى أحد الرفوف كان هناك جهاز راديو وبعض التحف الصغيرة ، بالإضافة إلى الحمام في طرف الغرفة ، ثم إستأذن المهندس ياسر من ياسين للذهاب لإكمال عمله وطلب منه أن يرتاح من عناء السفر.

إغتسل ياسين ثم إستلقى على سريره ووجد نفسه يشعر بالنعاس والإرهاق ، وما هي إلا فترة وجيزة حتى داهمه النوم ولم يستيقظ إلا على حركة قريبة منه وعندما فتح عينيه وجد ياسر بإبتسامته الجميله يدعوه للاستيقاظ وتناول الشاي ، وكانت الساعة المعلقة على الحائط تشير إلى السادسة والنصف مساءً ، جلس زملاء العمل يشربون الشاي وبدأ ياسر يوضح لياسين طبيعة عمل قسم مكافحة الآفات الزراعية ، وكيف يدرسون النباتات والامراض التي تتعرض لها والأبحاث التي يقومون بها في المختبر لإيجاد العلاج المناسب لأي آفة زراعية جديدة ، وما إن سمع ياسين كلمة مختبر وأبحاث إلا وتذكر فوراً أستاذه الألماني وتلك النظرية التي لا تفارقه ، هل يا ترى أستطيع إجراء التجربة في عملي الجديد..؟؟ مرّت السهرةُ لطيفه أحس معها ياسين بالود من المهندس ياسر وشعر بأنه سيكون صديقه المقرب في الأيام القادمه ، ثم خلدوا إلى النوم في إنتظار أول أيام العمل الجديد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رواية ياسين الفصل السابع (( ليس بالأمر السهل ))

رواية ياسين الفصل الثاني (( البحث عن وظيفة ))

رواية ياسين الفصل الخامس (( خطوةٌ إلى الأمام ))