رواية ياسين الفصل الرابع (( المختبر ))


استيقظ ياسين وزميله في السادسة تماما على جرس المنبه ، فإغتسلوا وإرتدوا ملابسهم وتناولوا إفطاراً خفيفاً خرجوا بعده إلى العمل ، حيث نزلوا من سكن الموظفين وتوجهوا إلى ساحة النقل لتنقلهم حافلة صغيرة إلى قسم الآفات الزراعية ، والذي يقع في أقصى الطرف الجنوبي لمركز الأبحاث ، وعندما وصلوا هناك كان على بوابة المبنى رجل قصير يرتدي نظارات سميكة ومريولاً طبياً ، وما إن شاهده المهندس ياسر حتى مال برأسه على ياسين يهمس له بأن يتهيأ لمحاضرة قوية ، لم يفهم ياسين ماذا يقصد ياسر إلا عندما إقترب من الرجل القصير وحيّاه ، وبدلاً من رد التحية إنهال عليهما بمحاضرة عن الإنضباط والإلتزام ، أنتم متأخرون ثلاث دقائق عن موعد الدوام الرسمي ، لماذا لا تلبسون الملابس الطبية والقفازات ، أين حقائبكم والكراسات والأقلام ، هذا إستهتار وتهاون ، إتبعوني إلى الداخل ، تبعه الإثنان وهول المفاجأة لا زالت اثارها على وجه ياسين ، فيما ياسر يبتسم ويقول له لم تشاهد شيئاً بعد..!!

دخل الرجل القصير إلى أول مكتب في المبنى ، وجلس خلف الطاولة ونزع نظارته السميكة وشبك أصابعه معاً وقال إجلسوا ، أعرفك بنفسي أيها الموظف الجديد الغير ملتزم ولا منضبط ، أنا الدكتور حازم ، رئيس قسم مكافحة الآفات الزراعية وقد أفنيت عمري وشبابي في إنقاذ النباتات والأشجار من الأمراض ، لقد عشت بين المزروعات أعتني بها كأنها أولادي ، ونمت بين المحاليل والعقاقير لأكتشف دواءً لهذا المرض وعلاجاً لذلك الداء ، لم أتأخر يوماً دقيقة واحدة عن عملي كما تفعلون أنتم أيها الجيل المستهتر .... وهنا لم يستحمل ياسين كل ذلك فقاطعه قائلاً يا حضرة الدكتور إنني في أول يوم ولم أتأخر سوى دقائق معدودة ، ولا أعرف قوانين وتعليمات العمل فأرجو منك غفران هذه الزلة وأعدك بأن أكون ملتزماً منضبطاً كما تريد ، وعلى عكس ما توقع ياسين فقد إبتسم الدكتور حازم وقال في ود يبدو أنك موظف جيد كما أنك تجيد فن الإعتذار ، ثم عادت الكشرة إلى وجهه والحدة إلى صوته وقال لكن لا تنتظر مني أن أقبل بذلك مرة أخرى ، والآن هيّا بنا نقوم في جولة أُعرفك على طبيعة العمل.

تنفس ياسين الصعداء بعد هذه البداية المرهقة ، وأحس أنه سيواجه متاعب كثيرة مع هذا المسؤول المعقد ، الذي بدأ بتعريف ياسين على أقسام المبنى ، هذه غرفة سلمى السكرتيرة والمسؤولة عن الأمور الإدارية للقسم ، دخل الدكتور حازم إلى الغرفة فوجد سلمى مشغولة بترتيب بعض الملفات في الخزانة المخصصة لها ، وما إن رأته حتى أنتفضت فوراً مرحبة به ، هذا ياسين كامل عضو القسم الجديد ، وهذه سلمى السكرتيرة ، حياها ياسين فردت التحية باختصار فقد كان واضحاً أنها من نوعية الأشخاص المهووسون بالعمل والنظام والترتيب الذي كان واضحاً في مكتبها ، وإلا لما إستطاعت أن تستمر عند هذا المدير الحازم كما هو اسمه ، والذي سبقهم إلى الخارج يمضي في جولته ، هذا مكتب مكافحة القوارض ويضم أيمن وعادل وجميل الذين وقفوا باحترام يحيون مديرهم وزميلهم الجديد ، وإستمرت الجولة إلى قسم معالجة المياه ويضم سعيد وكمال ، ثم قسم الحشرات ويضم سعاد ونبيل وجلال وسمية ، ثم خفق قلب ياسين عندما شاهد لوحة فوق إحدى الغرف المغلقة مكتوب عليها المختبر.

لقد كان ياسين متشوقاً لرؤية مختبراً بعد أن غابت المختبرات عنه فترة طويلة ، بقواريرها الزجاجية ومحاليلها ومجاهرها ، وكم كان سعيداً عندما دق الدكتور حازم الباب وفتحه ودخلوا إلى المختبر ، ورأى ياسين الطاولات الرخامية ممتدة على جدران الغرفة الكبيرة ، تعلوها أرفف تحوي القوارير الزجاجية ، وفي احد الزوايا خزائن للمحاليل والسموم ، وكان الموظفون منهمكون في أعمالهم ، منهم من يتفحص بالمجهر ، ومنهم من يركب المحاليل ، ومنهم من يكتب المعادلات على سبورة في جانب الغرفة ، نعم هذا هو العمل الذي أريد ، هكذا كان ياسين يفكر ، وقد بدأ الموظفون بالتجمع أمامهم ليتعرفوا على زميلهم الجديد ، وبدأ الدكتور حازم بتعريف ياسين على موظفي المختبر ، هذا الدكتور قاسم رئيس المختبر ، والدكتور حسن مساعده ، وهذا الدكتور سمير والدكتورة عزيزة والدكتورة رباب والدكتور سليم ، وهذا راتب وفاطمه وجهاد وخليل ، وهذا عنتر عامل النظافة في المختبر ، وهذا زميلكم الجديد الدكتور ياسين وهو عالم في الكيمياء أنهى غربته في أوروبا ليعود إلى وطنه ويخدمه ، رحّب الجميع بياسين الذي كان سعيداً بهذا الجو الرائع بين الموظفين ، ولم يعكر صفوه إلا خروج الدكتور حازم من المختبر لإكمال جولته ، فقد كان ياسين لا يريد الخروج أبداً.

أسرع ياسين باللحاق بالمدير وإقترب منه قائلا ، يا حضرة المدير هل سيكون عملي في المختبر ؟ توقف الدكتور حازم فجأة وقال في حدّة أنا من يقرر أين سيكون عملك ، إتبعني لتعرف مكان عملك ، هنا أحس ياسين بالضيق والغضب الشديد فهو لا يريد غير المختبر مكاناً للعمل ، إنه عالم للكيمياء ومكانه المختبر ولا مكان غيره ، ولم يقطع تفكيره هذا سوى توقف المدير عند إحدى الغرف قائلاً هنا عملك يا ياسين ، قسم كيمياء التربة ، فنحن بحاجتك هنا لأن القسم لا يحوي سوى موظفين إثنين فقط ، وقد واجهنا في الفترة الأخيرة مشكلة كبيرة في نوعية التربة وإحتوائها على قدر كبير من الجراثيم التي تتلف المحاصيل ، وسبقه إلى الداخل حيث كان هناك موظف واحد فقط يجلس على مكتبه يطالع مجموعة من الأوراق ، هذا زميلك بالقسم المهندس عدنان ، ولكن أين جواد يا عدنان ؟ وقف الموظف مرحبا بهم وقال لقد خرج جواد لجمع عينات من تربة البيوت البلاستيكية في المزرعة يا حضرة المدير ، وسيعود سريعاً ، إلتفت الدكتور حازم الى ياسين قائلا هذا مكتبك وهذا زميلك عدنان الذي سيعرفك على زميلك الآخر جواد ، وأرجو أن تتعاونوا جميعاً لمصلحة العمل ، يمكنك الآن أن تباشر عملك ، وأرجو أن تأتي إلى مكتبي قبل نهاية العمل بنصف ساعة ، إلى اللقاء.

جلس ياسين على مكتبه والحزن واضحاً على وجهه ، فسأله عدنان ما بال زميلنا الجديد يبدو عليه الحزن في أول أيام العمل ، هل ضايقك المدير بإختيارك للعمل هنا ، أم أنك ترغب في قسم آخر ، رد ياسين نعم ، أريد أن أعمل في المختبر ، ولن أتقبل العمل في أي مكان آخر ، ضحك عدنان ضحكة إستفزت ياسين قائلا المختبر ؟؟!! وهل هناك عاقلاً يريد أن يعمل في المختبر بين المحاليل والسموم ، يرهق عينيه بالمجهر ويمضي ساعات وساعات بعد إنتهاء العمل لينتظر نتيجة تجربة قد تفشل مرات ومرات ، ما بالك يا ياسين هل أنت جاد ؟؟ نظر إليه ياسين دون أن يكلمه فقد أدرك بأن عدنان وأمثاله لن يعرفوا معنى العمل الحقيقي ، ولم يدركوا يوماً ما هي الكيمياء ، ولن يفهموا أبداً روعة حياة المختبرات والتجارب ، والأفضل أن لا أخوض معه في جدالات لا تفيدني في شيء ، ويجب أن أفكر كيف سأقنع الدكتور حازم بنقلي الى المختبر ، لكنني طبعاً سأقوم بعملي الحالي بإخلاص وجد حتى يحدث ذلك.

أخذ ياسين يرتب مكتبه ويتفقد خزانته وأدراجه ، وطلب من عدنان بعض الأشياء من قرطاسية وأوراق وغيرها ، وبينما هو كذلك دخل جواد يحمل بين يديه صندوقاً خشبياً وضعه على الطاولة ، ونظر إلى ياسين مستغرباً ، لكن عدنان تدخل فوراً وقال هذا الموظف الجديد يا جواد ، الدكتور ياسين كامل وهذا زميلنا جواد يا دكتور ياسين ، سلم كل منهم على الآخر وقد كان جواد شاب رياضي يبدو عليه القوة والنشاط ، وقد يكون الوحيد الذي شعر ياسين بأنه يقوم بعمله بجد ، طبعاً بالإضافة لموظفي المختبر والسكرتيرة سلمى ، جلس جواد في مكتبه وبدأ يحدث ياسين عن تخصصه وشهاداته ، وتعجب كثيرا عندما علم بما يتمتع به ياسين من شهادات وخبرة من اوروبا ، وقال مندهشا كيف لشخص يتمتع بكل هذا أن يكون عمله في هذا القسم ؟ فإعتدل ياسين في جلسته وقد أحس بأن جواد هو من سيفهمه ، فقد عرف بأن هذا القسم ليس مناسباً له ، وأكمل جواد كأنه يحدث نفسه ، عالم كيمياء حاصل على أعلى الشهادات من جامعات أوروبا وأمريكا وله خبرة طويله يتم تعيينه في مكافحة الآفات الزراعية ، وأين ؟؟!!!! في قسم كيمياء التربة الذي لا يعرف الكيمياء إلا في أسمه فقط ، فنحن ما علينا سوى أخذ العينات التي نجمعها إلى المختبر وهم من يقومون بكل ما يلزم ويزودونا بالنتائج وما علينا فعله ، إننا لسنا إلا موظفي نقل عينات ، وهنا ضحك عدنان ضحكة أدخلت الإحباط إلى نفس ياسين لكنه برغم ذلك لم ييأس بل أصبح أكثر جدية في محاولة النقل من هذا القسم بكل الوسائل.

جلس ياسين يراقب جواد وهو يفرغ محتويات الصندوق الخشبي حيث كان يحوي على مجموعة علب بلاستيكية مغلقة ولكن يبدو أن بداخلها تراباً ، وأخذ جواد يفرز العلب حسب المكتوب عليها ، القطعة رقم 3 مربع رقم 6 ، القطعة رقم 8 مربع رقم 2 ، وهكذا ، فإقترب منه ياسين مستفسراً عما يقوم به ، فشرح له جواد طبيعة ما قام به ، إننا نذهب إلى المزرعة والبيوت البلاستيكية لأخذ عينات من التربة لفحصها في المختبر ، والمزرعة وتلك البيوت مقسمه إلى قطع وكل قطعة مقسمه إلى مربعات ، وعندما نأخذ العينة نكتب على العلبة رقم القطعة والمربع لنعرف من أين أخذناها وننتظر نتيجة الفحص لنعالج المربع والقطعه المعنية ، فقاطعه ياسين وكيف يتم نقل العينات إلى المختبر وكم تستغرق من الوقت لذلك ؟ رد جواد ننقلها في هذا الصندوق وقد يستغرق الوقت بضع ساعات أو اكثر ، قال ياسين لكن هذه طريقة خاطئة يا جواد ، ولن أستغرب إذا عرفت بأن التربة لن تعالج بهذه الطريقة ، تعجب جواد وقد بدا عليه بعض الضيق وقال لياسين كيف تقول أن هذه الطريقة خاطئة ، وما هي الطريقة الصحيحة أيها الدكتور العبقري ؟؟ أحس ياسين بنوع من الإستهزاء بكلام جواد لكنه برغم ذلك إبتسم وقال سأشرح لك يا جواد ولا تغضب من كلامي ، فأنا لا أقصد بأن التقصير منك أنت لكن أنا اقصد بأن الطريقة كلها خاطئة وأنت لا ذنب لك ، فأنت تنفذ ما هو مطلوب منك ، لكن يا صديقي بعض الجراثيم تعيش في بيئتها في التربة ، وعندما تخرج من قاع التربة إلى محيط آخر فإنها تموت خلال دقائق ، لذلك قد تكون هناك جراثيم كثيرة في التربة الموجودة بالمزرعة وتؤثر على جودة المحاصيل ، لكن المختبر لن يكتشفها لأنها بكل بساطة عندما تُنقل في هذه العبوات البلاستيكية ولهذه الفترة الطويلة تموت ولا تظهر في مجهر المختبر ، وإن ظهر شيئاً منها فإن فني المختبر لا يأخذ موضوعها بعين الإعتبار لأنه يعتقد أنها ميته أو أن معالجة التربة قد نجحت ، وسكت ياسين وهو ينظر إلى مدى الدهشة على وجوه عدنان وجواد كأن على رؤوسهم الطير ، فقد كانت هذه المعلومات جديدة عليهم ، وفجأة إنفجر جواد غاضبا واخذ يسبُّ ويلعن بالمركز والقسم والعمل لأنه شعر بأن كل ما كان يقوم به سابقاً لا فائدة منه وذلك بسبب غباء القائمين على هذا المركز ، لكن ياسين أخذ يخفف عنه ويقول له بأن العمل الكيميائي دائما يحوي أخطاءاً ولا يمكن إكتشافها إلا بالخبرة والتجربة ، فشكره جواد على إهتمامه وأغرقه بسيل من المديح لعلمه ومعرفته وخبرته ، ثم عاد وقال مكانك ليس هنا يا ياسين ، صدقني.

إستأذن جواد من زملائه للذهاب لأخذ العينات إلى المختبر ، مع أنه قال مستهزئاً بأنه لا فائدة من ذلك لكنني سأفعل ما هو مطلوب مني ، وهنا طلب ياسين منه أن يرافقه إلى المختبر فقد وجدها فرصة للعودة ولو لبعض الوقت إلى المكان الذي يحب ، وفي الطريق طلب ياسين من جواد بأن لا يخبر قسم المختبر بما شرحه له سابقاً لأنه سيشرح الامر لمدير المركز اليوم عند الذهاب إليه قبل نهاية الدوام ، وعندما وصلوا إلى المختبر كان الجميع منهمكاً في العمل كما كانوا في الصباح ، ودخلوا إلى مكتب رئيس المختبر الدكتور قاسم ، وقد كان في مناقشة حادة مع مساعده الدكتور حسن ، كيف يا حسن تقول لي أن التجربة لم تنجح ، والعينات غير صالحة ؟؟ هل تفشل تجربة اربع مرات ، هل تفسد العينات في كل مرة ؟ هذا كلام غير مقبول نهائياً ولا بد أن هناك تقصير وخلل ما وهذه مسؤوليتك انت ، ثم إلتفت إلى ياسين وجواد وقال تفضلوا بالجلوس ، وعاد يصرخ في مساعده لابد أن تعالج الأمر يا حسن ولن أقبل بفشل جديد ، هل فهمت والآن إذهب إلى عملك ، وقبل أن يغادر حسن الغرفة توقف ياسين وقال انتظر يا دكتور حسن ، بعد إذن الدكتور قاسم هل لي أن أعرف ما هي تلك التجربة وما هي المشكلات التي تواجهكم ، نظر الدكتور حسن الى رئيسه الذي قال له إجلس يا حسن وإشرح الموضوع لزميلنا الجديد فقد نجد لديه حلّا ، إنه تعلم في أوروبا وقد يساعدنا في عملنا ونتعاون لما فيه مصلحة الجميع ، أحس ياسين بأن هذه فرصته التي ساقها له القدر ، فلو إستطاع إثبات قدرته للدكتور قاسم فقد يطلب من الدكتور حازم رئيس المركز بنقله للعمل لديه في المختبر ، وتمنى ياسين أن يستطيع حل مشكلة التجربة الفاشلة التي بدأ الدكتور حسن بسرد تفاصيلها.

إننا نقوم بعمل فحص لخزانات المياه المغذية لبعض أقسام المزرعة ، لأن نتيجة التحاليل أثبتت بأن هناك نوع من الجراثيم يعيش في المياه يؤثر على المزروعات عند سقايتها مما يتلف جذور النبات ويمنع وصول الماء إلى باقي أجزاء النبتة ، ولكننا أخذنا عينات من كافة الخزانات الموجودة وقمنا بفحصها ولم يتبين لنا وجود أي جرثومه في الماء ، وكررنا التجربة اربع مرات دون جدوى ، كما أعدنا تجاربا على النباتات المتأثرة ووصلنا إلى نفس النتيجة بأن السبب هو نوع من الجراثيم المائية ، ولا نعرف كيف تصل هذه الجراثيم إلى النبات وهي غير موجوده بالماء الذي يروى به ، فما رأيك يا دكتور ياسين ، هل لديك حل ؟؟ تنهد ياسين وفكر قليلا ثم بدا عليه الإرتياح وقال هل لي أن أعرف من أين تأخذون العينات وفي أي وقت ؟ تعجب الدكتور حسن من سؤال ياسين لكنه اجاب إننا نأخذها من خزانات المياه في الصباح الباكر ، قال ياسين وكيف تأخذون العينات ؟ رد الدكتور حسن نمد انبوب ونسحب من الماء الموجود في قوارير زجاجية ونقوم بفحصها ، قال ياسين وهل كل العينات تم أخذها في الصباح الباكر ؟ رد الدكتور حسن بالايجاب ، حينها قال ياسين لقد وجدت المشكلة يا دكتور قاسم ، ووجدت الحل أيضاً ، إن بعض الجراثيم يا دكتور تنشط في درجات الحرارة المرتفعة ، وتخمل في درجات الحرارة المنخفضة ، فهي عند إنخفاض درجة حرارة الماء فإنها تخمل وتنزل وتتجمع في قاع الخزان ، وعندما يتم أخذ العينات في الصباح الباكر عندما تكون المياه بارده فإن الجراثيم تكون في قاع الخزان ، لذلك إذا أخذنا العينه من مياه السطح فلن تظهر معنا في التحاليل ، لذلك أقترح أخذ نوعين من العينات ، الأول في الصباح الباكر ولكن من قاع الخزان ، والثاني من سطح أو وسط الخزان ولكن عند الظهيرة حيث درجات الحرارة مرتفعة ، وأعتقد بأنه سيتم إكتشاف الجراثيم في كلتا العينتين أو إحداهما على الأقل ، بدا السرور واضحاً على الدكتور قاسم الذي قال أحسنت يا ياسين ، إنك مبدع حقاً ، ونظر إلى الدكتور حسن وقال له نفذ إقتراح ياسين فوراً ، هنا تدخل ياسين راجيا من الدكتور قاسم السماح له بمرافقة الدكتور حسن بأخذ العينات وفحصها لكن الدكتور قاسم قال له بأن هذا غير ممكن لأن عمله في قسم آخر وليس في المختبر ، ولما أحس الدكتور قاسم بخيبة الأمل على وجه ياسين وعده بأن يأخذ الإذن من الدكتور حازم  وإن وافق فلا مانع لديه من مرافقة الدكتور حسن في العمل ، أحس ياسين بفرحة عارمة وشكره كثيراً متمنياً موافقة الدكتور حازم على ذلك.

تغيرت نفسية ياسين بعد زيارته للمختبر ، حتى أن جواد أخذ يسأله هل لهذه الدرجة أنت متشوق للمختبرات والتجارب والابحاث ، أحس ياسين بأنه يريد أن يتحدث ، يتحدث مع أي شخص ، يخرج ما في جعبته علّه يرتاح قليلا  ، إنني يا جواد عالم ، هل تعرف ما معنى عالم ؟ عالم يعشق الكيمياء ويعشق المختبرات والتجارب ، خمسة عشر سنة من عمري بين الأبحاث والتجارب والمختبرات ، في أوروبا وامريكا عشت أجمل أيام حياتي لأنني كنت أقوم بما أحب ، ثم بدا عليه الحزن وهو يقول معلمي الألماني كم كان عظيماً يا جواد ، لقد كنت ساعده الأيمن ، وأطلعني على كل خفايا علم الكيمياء ، حتى تجربته السرية الخطيرة أطلعني على سرّها ، تنبه ياسين فجأه وأحس بأنه قال ما كان يجب أن لا يقال ، وتأكد من ذلك عندما سأله جواد عن أي تجربة سرية تتحدث ؟ ومن هو هذا الألماني وماذا يريد ، وأحس ياسين بنظرة شك في عيون جواد لكنه أخذ يضحك وقال له لا تجربة سرية ولا شيء من هذا يا جواد ، إنه أستاذي في الجامعة وقد تعلمت منه الكثير وهو الآن تحت التراب لأنه توفي منذ زمن ، ولم تفلح هذه التبريرات مع جواد فقد أحس ياسين بنظراته كأنه ينظر إلى جاسوس خطير.

مضى اليوم وياسين يحاول بين فترة وأخرى أن يكسب ود جواد ويبعد عن تفكيره أي شك فيه ، فليس لديه الوقت الآن للدخول في متاهات وتحقيقات وأسئلة من هذه الجهة أو تلك ، وبدأ جواد يعود إلى طبيعته شيئاً فشيئاً ، حتى إقترب الدوام من نهايته ولم يبقى سوى أربعين دقيقة فإستأذن ياسين من زملائه للذهاب إلى المدير ، وأخذ يفكر في طريقه هل فاتحه الدكتور قاسم بموضوع مساعدة الدكتور حسن بتجربته ، هل سيوافق ، هل يمنعه من ذلك ، ولم يحس بنفسه إلا وهو أمام باب غرفة المدير ، عدّل هندامه وطرق الباب فسمع صوت المدير يقول تفضل ، فتح الباب ودخل ، كيف حالك يا حضرة المدير ، أهلا يا ياسين تفضل بالجلوس ، هل تشرب الشاي ، ودون أن ينتظر إجابة ياسين رن جرس أمامه فسمع ياسين الباب يطرق ، ودخل عامل فأمره الدكتور بإحضار كوبين من الشاي ، ثم إلتفت إلى ياسين قائلاً حسناً أخبرني كيف كان يومك ؟ هل كل شيء على ما يرام ؟ أحس ياسين بأنه يجب أن يكون صادقا فإن المدير سيعرف كل شيء عاجلا أم آجلا ، فقال في وضوح الحمدلله يا حضرة المدير كان كل شيء جيداً ، وزملائي بالعمل في قمة الأدب والإحترام ، وقد رافقت جواد إلى المختبر لإيصال عينات التربة ، ولكن يا حضرة المدير هناك مشكلة أريد أخبارك بها ، إن آلية نقل عينات التربة غير صحيحه ويجب تغييرها ، أحس ياسين بالضيق على وجه المدير ، فأسرع يقول أقصد أن هناك طريقة أفضل يمكن أن تعطي فعالية أكبر في نتائج التحاليل ، إن العينات تأخذ وقتاً طويلا والتربة تخرج من بيئتها لفترة قد تجعل أي جراثيم لا تظهر في العينة عند تحليلها ، ثم سكت ياسين بإنتظار رد المدير الذي رد بكلمة واحده ، أكمل.. وجد ياسين نفسه مضطراً لأن يخبر المدير بما حصل في المختبر فاخبره بكل الموضوع راجياً منه الموافقة على مشاركة الدكتور حسن في التجربة ، تنهد المدير ونظر إلى ياسين كأنه يتفحصه ، ثم قال إنني لا انكر مجهودك اليوم ، وأقدر لك حرصك على مصلحة العمل ، لكنني أريد أن أخبرك بأنني لا أحب مخالفة الأوامر ، وذهابك اليوم إلى المختبر فيه مخالفة لا أحب أن تتكرر ولن يشفع لك سوى إقتراحاتك المجدية بخصوص عينات التربة ، وأيضاً حل مشكلة فحص المياه ، هذا إن نجحت طريقتك ، أما بخصوص مرافقة الدكتور حسن فإن الدكتور قاسم طلب مني السماح لك بذلك لكنني رفضت ، أنت لك عملك وهم لهم عملهم ولا يجوز خلط الأمور ببعضها ، فعليك أن تلتحق بقسمك من صباح الغد وتنسى مرافقة الدكتور حسن ، انتفض ياسين واقفاً وقال يا حضرة المدير أرجوك ، أرجوك أن تسمح لي بذلك ، إنني عالم كيمياء ويجب أن اقوم بالتجارب والأبحاث ، أرجوك يا حضرة المدير لا تكبح جماحي وتلجم طموحي ، كان المدير ينظر إلى ياسين بإستغراب ، لكنه أمام لهفة ياسين وحماسه لم يجد مفرّا من الموافقة على طلبه بشرط ، أن يعود بعدها إلى عمله في قسم كيمياء التربة.

فرح ياسين كثيراً بموافقة المدير على طلبه ، وأحس أنه بدأ خطوة جيدة نحو ما يريد ، فلو نجح إقتراحه فلا بد أن الدكتور قاسم سيطلب من المدير نقله إلى المختبر ، وتوجه مسرعاً إلى ساحة النقل للعودة إلى السكن ، فقد كان يحس بتعب شديد فكرياً أكثر منه جسدياً ، وكان بحاجه لأخذ قسط من الراحه وما إن وصل إلى غرفته حتى إستلقى على سريره ونام وشعاع من الأمل بين عينيه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رواية ياسين الفصل السابع (( ليس بالأمر السهل ))

رواية ياسين الفصل الثاني (( البحث عن وظيفة ))

رواية ياسين الفصل الخامس (( خطوةٌ إلى الأمام ))